وصف الرئيس فؤاد السنيورة المشهد اللبناني بـ”حال غير مسبوقة من اللايقين الوطني، حتى في أيام الحروب الداخلية، بالتزامن مع انهيارات كارثية اقتصاديا ماليا ومعيشيا وصحيا ومؤسساتيا واقتصاديا، زادها تفاقما الاستقصاء القائم في تشكيل حكومة جديدة، مما ينذر بفوضى اجتماعية عارمة وانهيار شامل”.
ورأى خلال إطلاق مبادرة بعنوان “مبادرة للعيش المشترك والدستور والانقاذ الوطني”، أن “حال اللايقين تتمثل باهتزاز المرجعية الناظمة لحياة اللبنانيين في وطن ودولة، أي وثيقة الوفاق الوطني، اتفاق الطائف، والدستور”. وقال: “أخطر ما في الوضع الراهن عجز القوى السياسية عن المبادرة في تحديد وجهة إنقاذية وطنية. فالمبادرة من أماكن أخرى ضرورية وممكنة، لأن الانتظار أخذ يغري بعض الأطراف بتمرير اقتراح انقلابي معلن على طبيعة النظام السياسي وصيغة العيش المشترك، الدعوة الأخيرة لرئيس التيار الوطني الحر، بالأصالة عن نفسه وبالنيابة على ما يبدو عن شريكه الدائم والثابت حزب الله في السعي لتغيير النظام، وهي ممكنة لأننا على معرفة ويقين بوفرة الكفاءات الوطنية التي استخلصت دروس التجارب المريرة”.
وقال في نص المبادرة: “تسيطر على المشهد اللبناني الراهن، ولا سيما في السنة الأخيرة، وبالأخص مع الاستعصاء القائم في تشكيل حكومة جديدة – تسيطر حال من اللايقين الوطني غير مسبوقة حتى في أيام الحروب الداخلية. وهذا في ظل انعدام ثقة وتدافع شرس بين المكونات السياسية الطائفية، وبالتزامن مع انهيارات كارثية اقتصاديا وماليا ونقديا ومعيشيا وصحيا ومؤسساتيا تنذر بفوضى اجتماعية عارمة وانهيار شامل، وفيما تعيش المنطقة من حولنا سيولة جيوسياسية شبيهة بأوائل القرن الماضي. يتمثل هذا اللايقين الوطني غير المسبوق في اهتزاز – أو حتى تراجع – المرجعية الناظمة لحياة اللبنانيين في وطن ودولة (وثيقة الوفاق الوطني اللبناني ـ اتفاق الطائف، والدستور لدى غالبية القوى السياسية الفاعلة في المشهد اللبناني. فهذه القوى هما فريقان سياسيان كبيران: فريق رافض لاتفاق الطائف والدستور منذ البداية، وناشط في تقويضهما على مدى ثلاثين سنة، بمؤازرة وصايتين خارجيتين، متعاقبتين ومتداخلتين، سورية وإيرانية، واللتين لطالما عملتا على تعطيل استكمال وحسن تطبيقهما. وهو الفريق الذي عرف بفريق 8 آذار، الذي وبالرغم مع ما يعتوره من خلافات كامنة ما يزال فريقا واحدا حتى اليوم، ومقطورا إلى عربة حزب الله. وفريق تبنى اتفاق الطائف والدستور من البداية، ولكنه تدرج ووفق سياسة ممنهجة في التخلي عنهما عمليا، ولاسيما اعتبارا من اتفاق الدوحة 2008، وبالأخص منذ التسوية الرئاسية عام 2016. وهو عرف بفريق 14 آذار الذي لم يعد فريقا واحدا بل أجزاء متباينة، تحت وطأة قوى الأمر الواقع في لبنان والمنطقة. وهنا يكون علينا أن لا نتناسى النضالات الهائلة لهذا الفريق والشهداء الذين سقطوا من أجل الحفاظ على السلم الأهلي والدولة الواحدة، والتي تكسرت فيها النصال على النصال. يضاف إلى ما تقدم، لناحية هجران مرجعية الطائف والدستور، أن جيل الشباب اللبناني لم يتمكن من استدخال هذه المرجعية في وعيه وحياته العامة. وذلك لسبب كاف وبسيط هو أن هذا الجيل لم يشهد أي إعمال مستقيم لتلك المرجعية في الدولة والحياة العامة، ما أحدث منطقة فراغ في ذاكرته. كل ما شاهده تدبيرات وتلفيقات ومراكمات أفضت إلى ما يحيق به من أوضاع كارثية، فخرج إلى الشارع غاضبا ورافضا، ولكن من دون “بوصلة” أو دليل، الأمر الذي جعله مشتتا ونهبا لكل أنواع التدخل المريب في حركته المشروعة والمحقة”.
أضاف: “نرى أن تغييب مرجعية الطائف والدستور أعاد بقوة إلى واجهة العمل السياسي قاعدة رديئة تحكمت بالتاريخ اللبناني على مدى عقود، وكانت في أساس وهن الدولة المقيم، كما شكلت عائقا صلبا أمام تنامي الحس الوطني الجامع والموحد. تلك القاعدة تقوم على الآلية التالية: أن يخوض كل حزب طائفي، يستشعر في نفسه فائض القوة والطموح، معركتين: معركة طاحنة داخل طائفته ليفرض نفسه ممثلا أوحد لها- وبطبيعة الحال بعد اختزال الحزب في زعيمه المفدى- ثم يخوض معركة طاحنة أو معارك في وجه الطوائف الأخرى ليعين حصة طائفته (= حصته) في الدولة. ولقد اتخذت هذه القاعدة أخيرا تسمية مبتكرة هي ائتلاف الأقوياء المتغلبين في طوائفهم والمذاهب، ولا سيما بعد أن قدم كبير الأحزاب الطائفية نموذجا غضنفريا يحتذى، بفضل نجاحه المهول في هذا المجال. ولعل أخطر ما في الوضع الراهن هو عجز القوى السياسية المتصدرة للمشهد عن المبادرة في تحديد وجهة إنقاذية وطنية (أي عامة)، بدلا من انشغال كل فريق بالمحافظة على رأسه، في انتظار ما ستفضي إليه لعبة الأمم في المنطقة للتكيف طوعا أو كرها مع نتائجها. إلا أنه وبدلا من الاستسلام للأمر الواقع، نرى أن المبادرة من أماكن أخرى ضرورية وممكنة. فهي ضرورية، لأن الانتظار لن يفيد أحدا، حتى لو ظن أنه عارف باتجاه الرياح وطالع الأبراج، بل سيجعل من الجميع حطاما على درب الفيلة، كبارها وصغارها. وهي ضرورية خصوصا لأن المرض (الانهيارات المتسارعة) ليس من النوع الذي يمهل المريض، ولا طب خارجيا له. كذلك، فإن الانتظار، مع التشلع القائم في الداخل اللبناني، أخذ يغري بعض الأطراف بتمرير اقتراح انقلابي معلن على طبيعة النظام السياسي اللبناني وصيغة العيش المشترك في هذا التصدع المعتبر ضائعا (دعوة رئيس التيار الوطني الحر الأخيرة، بالأصالة عن نفسه وبالنيابة- على ما يبدو- عن شريكه الدائم والثابت حزب الله في السعي لتغيير النظام)”.
وتابع: “إن المبادرة من أماكن أخرى ممكنة، لأننا على معرفة ويقين بوفرة الكفاءات الوطنية التي استخلصت دروس التجارب المريرة، ورفضت الانسحاب من الهم الوطني- الأخلاقي، أكانت هذه الكفاءات مستقلة أصلا ودائما، أو مازالت داخل أطرها الحزبية التقليدية لسبب أو لآخر، ولكنها ترفض الانحباس داخل شرنقات وضعت قيادات الأحزاب نفسها فيها أو دفعت إليها. إن مقاربتنا أو مبادرتنا هذه لا تنطلق من تمييز مسبق بين أحزاب وطوائف وقطاعات وأمزجة أهلية سائدة في هذا الجانب أو ذاك، وإنما تقوم على التمييز في كل هذه المستويات بين من استخلصوا الدروس وعقدوا العزم على التلاقي، وبين من لم يستخلصوا بعد أو لم يعقدوا العزم. هي ليست مبادرة في وجه أحزاب وكيانات سياسية، وإنما في وجه مراوحة قاتلة. نرى أن أي حراك إنقاذي في هذا الوقت لا بد له من مرجعية مفهومية ودليل عمل، وإلا ضاع في مسالك التجاذبات والمكايدات القائمة، والمحمولة على رهانات طائشة، وسط نزاعات إقليمية ودولية محتدمة، من شأنها أن تجعل المراهنين اللبنانيين- على اختلاف اتجاهاتهم- بيادق صغيرة على رقعة أجنداتها. إنه وقت الخيارات الوطنية الكبرى والجامعة، وليس وقتا لحماية رأس من هنا أو هناك تورط في رهان زينه له طيشه أو أزمته الذاتية. ذلك أن لبنان يكون بجميع بنيه أو لا يكون، ولجميع بنيه أو لا يكون. ولهذه الغاية فإننا لا نجد بديلا عن اتفاق الطائف والدستور، مرجعية ودليل عمل، لا بل نعتبرهما المرجعية الأنسب لاستقرار لبنان ومعافاته على طريق السيادة والاستقلال وصون العيش المشترك، في وطن نهائي لجميع أبنائه، عربي الهوية والانتماء، وفي دولة مطابقة لمجتمعها، لا دولة الغلبة على مجتمعها، كما هي الحال في دول الأنظمة الكليانية التوتاليتارية. إلى ذلك نعتبر أن الأزمات القائمة والمتناسلة منذ عقود ليست ناجمة عن أزمة نظام سياسي ثبت فشله أو قصوره بالتجربة- كما يزعم البعض، وإنما هي أزمة إدارات سياسية لم تكن في مستوى تسوية الطائف التاريخية، كما أنها هجرت هذه المرجعية إلى ترتيبات وتدبيرات ومشاريع أعراف لمصلحة الوصايات الخارجية وعلى قياس أدواتها الداخلية. وفي هذا السياق الانحرافي ضاع كثير من الإرادات الوطنية الطيبة، وسقط كثير من الشهداء الأعلام، فضلا عن خسارة المواطنين اللبنانيين لفرص تحسين عيشهم وعيش أبنائهم في وطن ودولة”.
وقال: “إن نظرتنا إلى مرجعية الطائف والدستور تختلف تماما عن تلك النظرة القائلة بأن تسوية الطائف كانت “ضرورية ومؤقتة ولوقف الحرب الداخلية لا أكثر”. على العكس من ذلك، نعتقد أن اتفاق الطائف كان تسوية تاريخية، واقعية ومنصفة ومتوازنة، بالإضافة إلى أنها صححت عددا من الانطباعات والسلوكيات الخاطئة التي اعتورت التجربة اللبنانية في مدى قرن من الزمان. لذلك نرى أنها تمتلك مقومات الدوام الاستراتيجي. وبطبيعة الحال من دون الوقوع في تقديس الصنميات أو في الاستخفاف بالعقود الاستراتيجية. فالدوام الاستراتيجي لا يعني الجمود، بل يخضع للمساءلة، إنما في ضوء التجربة والاختبار، كما أن المساءلة لا يجوز أن تقوم بناء على أهواء فئوية أو موازين قوة متغيرة. ذلك أن لبنان يقوم على قوة التوازن لا على موازين القوى: في طليعة ما صححه اتفاق الطائف ذاك الانطباع الخاطىء والسائد لدى اللبنانيين حول طبيعة العقد الوطني. فلقد طالما اعتقد اللبنانيون ان العقد الوطني الذي قامت عليه حياتهم المشتركة إنما كان اتفاقا بين طوائفهم المختلفة، فأنتج بالتالي- أي بصورة عرضية- عيشا مشتركا. إن الدولة الناشئة عن مثل هذا العقد الطوائفي لا يمكنها إلا أن تكون دولة طائفية، تقوم على توزيع السلطات بين الطوائف. وما نشهده منذ عقود، ولا سيما في الآونة الأخيرة، خير دليل على النتائج الكارثية لمثل هذا الانطباع Perception وما ترتب عليه من سلوكيات سياسية في الحكم والمجتمع، أشرنا سابقا إلى أبرزها (معركة تمثيل الطائفة، ثم يمعركة تعيين حصتها في الدولة). والحقيقة أن ميثاق 1943، الذي غالبا ما يستخدم قرينة على وجود اتفاق بين الطوائف، لم يؤسس عقدا وطنيا بين اللبنانيين، وإنما أعاد التشديد آنذاك على ضرورة بقائهم معا في لحظة حرجة، جراء انقسامهم بين من يريدون استمرار الانتداب الفرنسي ومن يطالبون بالاتحاد مع سوريا. إن العقد الوطني بين اللبنانيين قائم إذا على عيش مشترك غير ناجم عن الاتفاق بين طوائفهم المختلفة، بل جاء نتيجة استحالة أن تبقى كل طائفة في نطاق عيشها الخاص. وهذه الاستحالة ذاتها هي التي أكدت على العيش المشترك، الذي بدأ اللبنانيون بإدراك حقيقته وأهميته بعد أن اختبروا أثناء حروبهم الطويلة (1975-1990) التجربة المريرة للاعيش معا، وهي أن لبنان لا يستطيع أن يتماثل أو يتماهى مع واحد من مكوناته الطائفية. صحيح أن لكل طائفة خصائصها، أما الوطن ودولته فلا يمكن اختزالهما في واحدة منها، كما أنهما لا يشكلان حاصل جمع حسابي للطوائف.
أضاف السنيورة: “على أساس تصحيح مفهوم العقد الوطني، انفرد الدستور اللبناني من بين الدساتير الديمقراطية في العالم بعبارة لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، علاوة على العبارة الديمقراطية التقليدية الشعب مصدر السلطات، كما لاحظ الفقيه الدستوري ادمون رباط. وثمة عبارة أخرى متصلة بهذا المفهوم الطبيعي والواقعي للعقد الوطني اللبناني هي لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين خلافا للعقود الفدرالية أو الكونفدرالية في دول أخرى. إلى ذلك، وربطا بمفهوم العقد الوطني، استطاع اتفاق الطائف أن يتجاوز خلافا تاريخيا بين اللبنانيين، معلنا او مضمرا، حول هوية لبنان وانتمائه، فأثبت في مقدمة الدستور أنه وطن نهائي لجميع أبنائه (مطلب مسيحي تاريخي)، عربي الهوية والانتماء (مطلب إسلامي تاريخي). وبذلك أصبحت الهوية رضائية جامعة، لا تجيز التوقف عند أحد شطريها والاكتفاء به، فضلا عن كونها توفر مصلحة لبنان في محيطه الطبيعي”.
وتابع: “يضع اتفاق الطائف حدا للمنطق القائم على رعاية توازن هش بين الأوزان والأحجام الطائفية. وذلك بإلغائه المعيار العددي الديموغرافي الذي طالما استخدم سلاحا في الصراع الطائفي، وبإقراره المناصفة على صعيد تمثيل المسيحيين والمسلمين في السلطة وفي مواقع الفئة الأولى من الإدارة العامة. هذه المناصفة لا تعني تكريس تقاسم السلطة فيما بين الطوائف، بل ترمي في مرحلة أولى وإلى تهدئة نفوس الطوائف بعد الحرب، من خلال تمثيلها الرمزي في السلطة. وهذا الأمر يتيح في مرحلة ثانية إلغاء القيد الطائفي المعوق لعمل الدولة والمضر بالعيش المشترك. وذلك بإنشاء مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الطوائف بصفتها هذه، والذي ينحصر اهتمامه وقراره في القضايا الكبرى المتعلقة بالعيش المشترك. إن فكرة المرحلية أو الانتقالية في تطبيق اتفاق الطائف يدركها كل من عملوا في التحضير لهذا الاتفاق وكانوا على صلة بصياغة نصه. والحال أن التطبيق الكيفي والاعتباطي، في كنف الوصاية، لم يساهم في تهدئة النفوس بل زادها قلقا. أكثر من ذلك، استخدمت الوصاية شعار إلغاء الطائفية السياسية الآن وفورا كلما أرادت ابتزاز المسيحيين. في المقابل أدركت قيادات إسلامية رشيدة حساسية الموقف، من أمثال الرئيس رفيق الحريري والإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وذهبت إلى القول بتأجيل إلغاء الطائفية السياسية إلى أمد له مدى ونهاية، إدراكا منها أن التطبيق السليم بما يفي بالغرض (تهدئة النفوس) غير متيسر في ظل الوصاية والهيمنة الخارجية”.
وقال: “من خلال إلغائه المعيار العددي الديموغرافي، يضع اتفاق الطائف حدا لمفهوم الأقليات اللبنانية المتجاورة، ويتيح إمكانات هائلة لتفاعلها بصورة أفضل. إذ تصبح كل طائفة جزءا عضويا من أكثرية ذات طبيعة تعددية هي مجموع اللبنانيين، وغير قابلة للاختزال في أحد مكوناتها. وبذلك لا يعود اللبنانيون مجموعة كيانات، بل كيانا واحدا. وهذا الكيان الواحد لا يقوم على إلغاء التنوع وفرض الانصهار القسري، بل يقوم على الاعتراف بالتنوع ضمن الوحدة وفي احترامه والمحافظة عليه. وبكسره المنطق الأقلوي يحرر اتفاق الطائف اللبنانيين من عقدة الخوف من الآخر التي تقع في صلب كل السياسات الطائفية. وبذلك لا يعود الآخر خصما يجب مواجهته باستمرار، لأنه يشكل خطرا وجوديا دائما على الذات، بل يصبح عنصرا مكملا وضروريا للذات. إن هاجس الديموغرافيا لدى المسيحيين والدروز، وعقدة الاضطهاد التاريخي لدى الشيعة، وعقدة الكبت لدى السنة- لشعورهم بأنهم أكثرية في العالم العربي وواحدة من أقليات ها هنا- كل تلك العقد المعلومة والأخرى الغائرة لا تعود، من هذا المنظور الجديد، المحرك الرئيس للتاريخ اللبناني، حيث كانت كل طائفة تحاول أن تضع يدها على الدولة، أو على قسم منها، بذريعة توفير ضمانات لوجودها”.
وتابع: “من خلال التزام هذا العقد الاجتماعي/ السياسي القائم على العيش المشترك، ينتقل اللبناني من وضعية “عضو في جماعة طائفية” إلى وضعية “مواطن في دولة العيش المشترك”. إن هذا الائتلاف الطوعي لا يدعو اللبنانيين إلى التخلي عن انتماءاتهم الخاصة، أكانت طائفية أو ثقافية أو مناطقية أو غير ذلك، ولا عن انفتاحهم على عوالم مختلفة، أكانت عربية أو إسلامية أو غربية. على العكس من ذلك، فإن هذه الانتماءات المتنوعة مدعوة لإغناء عيشهم المشترك بصورة متواصلة. إنها مساهمة كل منهم في المشروع الكبير لبناء الدولة اللبنانية. بذلك يمكن التأكيد على أهمية وسمو العمل الوطني اللبناني الذي يتحقق بنتيجته نهوض لبنان بوصفه رسالة وقيمة حضارية وثقافية ووطنية يجتمع من حولها اللبنانيون ليعززوا جهودهم من أجل إعادة الاعتبار لدولتهم القادرة والعادلة بقرارها الحر المستقل وسلطتها الحصرية والوحيدة على كامل أراضيها والمصممة على تحييد لبنان وبشكل إيجابي عن كل الصراعات والمحاور الإقليمية والدولية، كما جاء في مبادرة غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. بتلك المعاني وغيرها يكون اتفاق الطائف قد مهد الطريق لزمن لبناني جديد وحداثي”.
وختم السنيورة: “نعتقد مجددا أن أصل الأزمات الراهنة التي يتخبط فيها لبنان لا يعود إلى خلاف حول تفصيلات واجتهادات، وإنما يعود إلى افتراق، أو بوادر افتراق، بين خيارين: خيار الطائف، المنسجم مع تكوين لبنان ومعناه ودوره، والذي لم يحظ بأية فرصة حقيقية للتطبيق وللإنجاز حتى الآن. وبين تطلعات أخرى من خارج العقد الوطني الحقيقي، تراهن على موازين قوى متحركة في الداخل والخارج. وهي بذلك مشاريع غلبة أو غربة لا يحتملها لبنان. استنادا إلى هذا الفهم لوثيقة الوفاق الوطني والدستور، وهو فهم واقعي وإيجابي ومنصف لتجارب عيش اللبنانيين معا لقرن من الزمان، يستحق أن يكون مبادرة جامعة للانقاذ الوطني وسط الانهيار الذي يتهدد إنجازات اللبنانيين، كما يتهدد وطنهم ودولتهم وموقعهم في المنطقة”.