هو رجل صنع الظرف وحدد المكان، فثار على رجالات المراحل المؤقتة.
مخزون مثقل بالتجربة والخبرة والإطلاع والتراكمات. تنفّس عشق الكتابة منذ الولادة وجعل من أعماق ذاته واحات دائمة العطش إلى الجمال والخلق والقصيدة… لا ترويها بحور اللغات. في قلمه انسيابية سحرية فتتكاثر الكلمات على أوراقه وتتراقص لتحبك قصيدة غزلية أو وطنية هادفة ملمّحة إلى انتفاضة أو تغيير ما أو حتى رثائية قادته صفعة القدر المؤلمة إلى اروائها.
تسلّح بعصامية، فبكر في مواجهة الحياة. إيمانه الكبير وحكمته الصائبة وتجلّده دفعوه لتخطي الصعاب والتعالي على الأحزان التي خيمت على عائلته الصغيرة. ما من ميدان وطأه إلا وأبدع فيه، فأجمع الناس على تأييد خطاه في كل عمل أقدم عليه .فمن عالم الشعر والكتابة والغناء والتلحين، قدم بلا منافس إلى عالم الإنماء والعمران وترأس مجلس بلدية الجديدة – البوشرية- السد وما زال يسجل النجاحات بإنجاز المشاريع الإنمائية والعمرانية، فأثبت أنه الفاعل الجدير أينما حلّ وقادر على جعل وجوده بصمة مشرّفة تستحق التكريم.
إنه أنطوان جبارة ، المارد الثائر في “حكومات الكرتون” والعاشق في ” شمالية” و”امرأة القمر” والمفكر في ” مشوار بتاريخ الموارنة”والأب المفجوع على فقدان الحبيب الغالي والإنمائي بامتياز في حسن تدبيره ورجاحة عقله.
فكر…شعر…إنماء
يبدأ نهاره مع ساعات الفجر الأولى ، يرتشف قهوته الصباحية واضعاً أمامه صفحة بيضاء ، يتأمل سر الكينونة ويفكر بوجودية جديدة ، ينقب عن تفاصيل الحياة ومعانيها المجردة كاشفاً النقاب عن عصر لم يعد منه فسرعان ما تنبض صفحاته بالكلمات التي تتساقط عن مائدة فكره النيّر لتغدو روائع قيٌمه في فن الشعر والكتابة التي تأخذه إلى السعادة وإن كانت في بعض الأحيان تعبيراً عن تجربة مأساوية خاصة هزت كيانه الأبوي.
من مؤلفاته الشعرية: عصافير النار1976- أساور الشمس 1969- شمالية 1973- ، حكومات الكرتون 1974… من كتاباته الفكرية: النظام وكتاب الثورة…، من ألحانه: أغاني الثورة غناء لسامي كلارك1981- ارضك الكرامة غناء باسكال صقر 1982- جبل الحب غناء هيلدا 1985.
هو المفكر المتمرد على واقع لبنان المرير وعلى التخاذل الموروث من عهد إلى عهد ومن جيل إلى جيل في وطن يبقى على بعد حدث ليشتعل ويترمد هيكله ومنشد العاصفة الحضارية الفاعلة بتغيير وجه لبنان ونسج هوية له. “لن يكون لبنان بعد اليوم ” مفعولاً به” أننا أردناه أن يكون فاعلاً ليس لمجرد أنه موجود إنما لأنه يعى مفهوماً نهضوياً جديداً قادراُ على إحداث الزلزال في جسد الأوقيانوس البشري الذي يحيط بنا “… ( كتاب الطلاب… وحكومات الكرتون ).
هو الثائر على الأنظمة العربية و حكام بلاده فدعى إلى قيام نهضة ثوروية عاصفة لقلب الموازين وإرساء قواعد جسيرة للبنان حرّ جديد حتى لا تكون فيه ثورة أكبر وأعظم من الثورة اللبنانية حسب اعتقاده ، لطالما آمن أن اللبنانية هي دعوة صريحة لقيام الوطن القائد والشعب القائد، وليس اتفاقاً على طريقة عيش مشتركة فالبحر تخضٌه الريح حتى يصبح بحراً، والعجين تعركه الأيدي حتى يصبح رغيفاً… فلما تخافون في بلادنا مرور الريح الحضارية، غير أني سأقاتل وأناضل وقد قررت أن أبني بلادي بيديّ”…
(الطلاب وحكومات الكرتون).
هو الشاعر والعاشق الولهان الذي دعى حبيبته إلى لملمة العطر وحرق البخور ونقل العالم بعدهما وكل العصور من السكن والعيش بقلب الحجر للسكن والعيش بقلب الطيور ( أميرة القمر) فالحب بالنسبة إليه معبر الفرح وغذاء الروح وحلو الأيام الخوالي ، وكأن الشباب أبى أن ينسلخ عن كيانه مع مرور الأيام فيبدو متجرداً بكل مراحل عمره جسداً وروحاً..
ترأس مجلس بلدية الجديدة ثلاث مرات على التوالي فكان وما زال “الريّس “الأمين على حقوق مواطنيه فلم يرد يوماً لطالب طلبه وصاحب حاجة حاجته. أحدث ثورة نهضوية في بلدته ونقلها من حال إلى حال أفضل حتى غدت مدينة مزدهرة عامرة تواكب التطور الحضاري والعمراني والثقافي… حركته لا تعرف الهدوء إلا في ساعات التأمل والصلاة. لم تغرّه المظاهر ولم يبحث عن الأضواء. عفوي، صادق، يصغل للناس ويشاركهم همومهم وعقولهم، مندفع لخدمة المصلحة العامة شجاع يعشق المغامرة ويتجاوز بخطواته مسافات بعيدة غير أنه لم يتعثر يوماً.
أبوٌة حزينة…جبارة الإنسان
رجل جلود حمل همه وأوجاعه ولوعته على ابنه الفقيد، أثقالاً وأوزاناً وحنيناً وحوّلها بصبره اللامحدود وإيمانه القوي إلى صفاء روحي تملك بنفسه فبات اللحن الأخير يُعزف على أوتار جوارحه الممزقة بعد أن علق الآمال على عريسه العشريني، إلاّ أنه لم يكن يدري أن القدر المحتوم سيكون له بالمرصاد ليخطف ولده الغالي من بين جناحيه الدافئين تاركاً في مقلتيه دمعات لم ولن يجففها مرور السنين. هكذا أرادت الأقدار أن تسدل الستار على أبوّة مبتورة. غير أن أنطوان جبارة يبقى معلم الحب والأمل والعمل مهما عصفت به رياح الزمن العاتية وتعاقبت حكومات الكرتون ….
ليندا زين الدين