د. شادي مسعد:
منذ أن أعلن مصرف لبنان منذ نحو اسبوعين، اعتماد آلية جديدة للموافقة على دعم السلع المستوردة التي تشملها اللوائح التي قررتها الحكومة، من خلال وزارة الاقتصاد أو وزارة الزراعة أو سواهما، ساد اعتقاد أن الدعم توقف عملياً، وانه لن يعود، خصوصاً أن مصرف لبنان وصل الى الاحتياطي الالزامي، وقد سبق واعلن بشكل حاسم انه لن ينفق من هذا الاحتياطي، ليس فقط لحماية ما تبقى من اموال المودعين، بل أيضاً لأن القانون لا يسمح له بذلك.
بصرف النظر عن ردود الفعل الشعبية الشاجبة لوقف الدعم، والصرخات التي علت مطالبة باستمراره، أو ايجاد آلية جديدة لمساعدة المواطنين، يبدو ان الدعم سيستمر، وبالشكل العشوائي السائد حالياً، مع تسجيل محاولات لخفض الاستهلاك الشعبي لكل السلع، سيما منها المحروقات عن طريق تأمين حدٍ أدنى من الكميات في السوق، بحيث سينخفض الاستهلاك، وتنخفض معه كميات التهريب.
هذا الاتجاه الانتحاري لا يجوز ان يستمر كما هو لأنه سيوصل إلى انهيار أعمق في المستقبل، ويغلق في وجه اللبنانيين امكانيات الوقوف مجدداً لسنوات طويلة. وهناك مؤشرات عدة، تؤكد استمرار الفوضى، من أهمها:
اولاً- استمرار فتح الاعتمادات لاستيراد المحروقات، ولو بوتيرة بطيئة بهدف التوفير. مع الاشارة هنا، الى ان الفاتورة النفطية هي الأعلى في سلم لوائح الدعم حيث تستهلك في مجموعها (بنزين، مازوت، فيول وغاز) حوالي 3 مليارات دولار سنوياً.
ثانياً – إعلان وزير الصحة بعد اجتماعه بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة استمرار دعم الدواء وفق الصيغة القائمة، بما يعني انفاق حوالي مليار و200 مليون دولار سنوياً.
ثالثاً – دعم الطحين مستمر بلا اي تغيير.
رابعاً – لا يبقى سوى اعادة دعم المواد الغذائية، ومن البديهي ان هذا الامر سيعود قريباً ولو بعد شطب بعض السلع الاستفزازية مثل النسكافيه وبعض المكسرات وسواها من المواد التي لا تعتبر اساسية في الدعم.
من خلال هذه الوقائع يتضح أن ملف البطاقة التمويلية، والتي يمكن ان تكون البديل الأنجع للدعم، وتساعد على خفض انفاق الدولارات المتبقية في مصرف لبنان، لا يزال يراوح مكانه. بل أكثر من ذلك، بدأ يُسمع في الكواليس انه مشروع صعب ومعقد ولن يرى النور في المدى المنظور.
هذا الواقع يدفع الى طرح سؤال حول مصير المنصة الالكترونية التي أطلقها مصرف لبنان، والتي ستبدأ العمل رسمياً في 27 ايار الجاري. إذ أن حسابات المركزي كانت مختلفة عن الواقع الحالي، إذ كان يؤمل أن يتزامن بدء التداول في المنصة مع وقف الدعم وبدء العمل بالبطاقة التمويلية، أو على الأقل بدء الترشيد التدريجي للدعم بحيث ينخفض المبلغ السنوي المطلوب للدعم من 6 مليار دولار الى أقل من 3 مليار. وهذا الأمر لم يحصل بعد، ولا مؤشرات تضمن حصوله وشيكاً.
أما العلاقة بين الدعم ومصير المنصة انما يرتكز على واقع ان المركزي كان يخطط، وقد أعلن ذلك صراحة الى التدخّل عندما يقتضي الأمر لوضع حد للارتفاعات الدراماتيكية التي قد يشهدها سعر صرف الدولار. وهذا يعني ان مصرف لبنان الذي كان يعتقد انه سينجح عبر البطاقة أو الترشيد في خفض انفاقه بحوالي 3 الى 4 مليار دولار سنوياً، كان في المقابل سيضخ بعض الدولارات في السوق من وقت إلى آخر لضمان نوع من الاستقرار النسبي في التقلبات. لكن، ومع استمرار الانفاق على الدعم لن يكون المركزي قادراً على ضخ الدولارات في المنصة، وبالتالي، مصير المنصة مهدّد بالفشل.
في الموازاة، لم تحرز الجهود المبذولة اي تقدم على مستوى البدء في البطاقة التمويلية، بدليل ان الخلافات عادت الى المربع الاول من خلال عدم التوافق على النقاط التالية:
أولاً – لوائح العائلات التي ينبغي أن تستفيد من الدعم المالي المباشر.
ثانياً – آلية التسجيل في هذه اللوائح، وطرق حمايتها من الزبائنية والوساطات.
ثالثاً – العملة التي ستدفع بها. صحيح أن وزير المالية يؤكد ان المسألة حُسمت على أساس ان الدفع سيكون بالدولار وليس بالليرة، لكن هذا الامر لا يزال مدار نقاشات جانبية، وقد يخضع للأمر الواقع المرتبط بالمصدر الذي سيؤمّن الدولارات للتمويل بكلفة تقارب حتى الآن ملياراً و200 مليون دولار.
رابعاً- مصدر وطريقة تمويل البطاقات. وفي هذا الموضوع، يبدو ان انتظار الجواب القطري أصبح من الماضي ولم تعد الحكومة المستقيلة تعوّل عليه. وبالتالي، يجري البحث حالياً عن مصدر بديل، مع محاولة عدم اللجوء الى الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان. وأحدث المحاولات في هذا الصدد تركّز على جس نبض البنك الدولي في شأن امكانية استخدام قروض للبنان لم يتم استخدامها في تمويل البطاقة. لكن هذا الموضوع قد يأخذ وقتا طويلا. كما انه غير مضمون، على اعتبار أن السلوك اللبناني الرسمي حيال البنك الدولي غير مشجع. فقد لجأ المجلس النيابي إلى فرض تعديلات على اتفاقية القرض من دون استشارة البنك الدولي.
وهذا الامر أثار اعتراضات البنك، ومن هنا بدا موقف الحكومة مستغرباً أن تزيد مطالبها من البنك، في حين انها لا تحترم الاتفاقيات معه. فهل ان المؤسسات الدولية مستعدة لتحمّل المزيد من الدلع اللبناني؟
هذه الاجواء توحي في النتيجة بأن المشهد الاقتصادي الشاذ لن يتغير في المرحلة المقبلة، ولن يكون المواطن في مأمن من ارتفاعات اضافية في سعر صرف الدولار، ومن تراجع اضافي في القدرات الشرائية، مع استمرار الشح في المواد الاساسية المدعومة.