المصارف تشتري الدولار… والمركزي يُنفق ما تبقّى

د. شادي مسعد

بدأت معالم التضخم المفرط (Hyper inflation) تفرض نفسها على المشهد الاقتصادي العام في البلد. ورغم ان الوضع المعيشي أصبح مأساويا مع تجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء الـ15 الف ليرة، إلا انه لا بد من التذكير ان الوضع لم يصل الى اسوأ حالاته بعد، وان تجارب دول أخرى، تُظهر ان ما نمر به اليوم، قد يكون مقدمة لانهيار أكبر تفقد معه الليرة قيمتها المعنوية والفعلية. وهناك دول اضطرت مع الوقت الى الاستغناء عن عملتها بعدما أصبحت بلا أي قيمة، ويرفض الناس التداول بها.

لماذا هذا التحذير، وهل اقتربنا فعلا من كارثة من هذا الحجم؟

لا بد من التأكيد ان سعر صرف الليرة اليوم لا يزال يعتبر مقبولاً في المقياس المالي والاقتصادي. واذا اخذنا في الاعتبار ان الحكومة اللبنانية اعلنت التوقف عن الدفع منذ آذار 2020، وان المصارف توقفت عن السماح بسحب الودائع أو التحويل الى الخارج منذ تشرين الاول 2019، وان مصرف لبنان ينفق منذ ذلك الوقت ما تبقى من اموال احتياطية لديه، تعود ملكيتها الى المودعين، واذا أضفنا الى كل هذه العوامل الوضع السياسي المأزوم والمغلق، بحيث يبدو وكأن الامور ستبقى على حالها لفترة طويلة، اذا احتسبنا كل هذه العوامل والمعطيات، سوف يتأكد لنا ان الليرة لا يزال وضعها مقبولا، وكان يمكن ان يكون اسوأ بكثير.

لماذا نجحت الليرة بعد مرور سنتين على افلاس الدولة، والافلاس غير المعلن للقطاع المصرفي، في الصمود نسبياً؟

الجواب يكمن في ثلاثة عوامل رئيسية هي:

اولا- تحويلات اللبنانيين من الخارج في اتجاه الداخل. هذه التحويلات بالدولار حافظت على وتيرة مرتفعة، وهي تتجاوزالـ7 مليار دولار سنويا، اذا احتسبنا بالاضافة الى التحويلات المحتسبة بواسطة شركات التحويل والمصارف والتي بلغت 6,3 مليار دولار، الدولارات التي تدخل باليد ولا يتم احتسابها.

ثانيا- استمرار المصارف في تسهيل الدفع بالشيكات الدولارية للشركات التي تمتلك حسابات لديها بالدولار. هذا الأمر ساهم في تسيير الأعمال واستمراريتها من خلال تمكن الشركات التي تدفع الرواتب بالدولار من الاستمرار والمساهمة في الابقاء على الحد الأدنى من الحركة الاقتصادية.

ثالثا- حجم الاحتياطي الذي كان موجودا في مصرف لبنان لدى بدء الأزمة (حوالي 31 مليار دولار)، بالاضافة الى أكثر من عشرة ملايين أونصة ذهب تساوي قيمتها اليوم حوالي 17 مليار دولار.

هذه العوامل ساعدت في منع الانهيار التام، والذي تصبح معه مقولة ان سعر الدولار بلا سقف واقعية. لكن، ما يدعو الى القلق اليوم ان نقاط القوة تتراجع وتضمحل، سيما ما يتعلق باحتياطي العملات الاجنبية، وهي نقطة حيوية. ذلك ان التحويلات، وان استمرت، الا انه لا يمكن استخدامها في الشأن العام، كذلك الذهب الذي تبقى قيمته معنوية على اعتبار انه ليس للاستخدام مبدئياً. كما توجد كمية منه خارج لبنان، وليس اكيدا ان في مقدورنا اعادتها الى البلد في حال احتجنا الى ذلك، بسبب احتمال التحفظ عليها بسبب الديون غير المسدّدة.

ما يجري في هذه المرحلة لا يدعو الى الاطمئنان، لأن الضغوطات على مصرف لبنان تأخذ منحى تصاعديا. وبمجرد ان يبدأ في خفض نسبة الاحتياطي الالزامي من 15 الى 14% كمرحلة أولى، فهذا يؤشر الى ان الاموال معرضة للنضوب بسرعة.

وكل المؤشرات تؤكد ان هذه الضغوطات ستزيد لأن البلد دخلت في سنة الانتخابات، وبالتالي، سيمارس السياسيون ضغوطات اضافية لإلزام المركزي بمواصلة الدعم، خصوصا ان القدرات الشرائية للمواطن تراجعت الى مستويات غير مسبوقة، بما يؤكد استحالة رفع الدعم. كما ان مشروع بطاقات التمويل يبدو بعيدا حتى الان. ولا تزال المفاوضات مع البنك الدولي في اول الطريق.

هل تعني هذه التطورات ان سعر صرف الليرة محكوم بمزيد من الانهيار في الايام المقبلة؟

الموقف الذي أعلنه صندوق النقد الدولي على لسان المتحدث باسمه جيري رايس كان لافتاً، لجهة التأكيد ان لبنان لم يعد مؤهلا للقيام بأية خطوات مجتزأة، في معرض تعليقه على مشروع الكابيتال كونترول والتعميم 158 لدفع اموال دولارية الى المودعين.

وقد صار واضحاً أن عدداً كبيراً من المصارف يلجأ الى السوق السوداء لشراء الدولارات تحضيراً لتطبيق التعميم، بما يعني أن الطلب على العملة الصعبة سيواصل الارتفاع في المرحلة المقبلة، بما يقود الى الاستنتاج ان رحلة الدولار الصعودية سوف تستمر، لأن المبالغ المطلوبة لسد النقص كبيرة وتحدث فرقاً في سوق ضيقة كما هي حال السوق السوداء. كما تنشط عملية بيع الشيكات المصرفية لجمع الدولارات. كل ذلك لا يبشر بالخير، سيما ان مصارف كبيرة تمتلك السيولة الضرورية في المصارف المراسلة باشرت بدورها جمع كمية من الدولارات من السوق المحلية، لتوفير قسم من اموالها في الخارج.

في النتيجة، السوق السوداء ليست حكراً على احد، ومن حق أي فرد او مؤسسة شراء الدولار منها، لكن المشكلة ان المواطن سيدفع الثمن سريعا، لأن ما سيحصل عليه باللبناني سيفقد قيمته بسرعة. ومن المعروف في الاسواق المالية غير المضبوطة، ان اي ارتفاع او انخفاض لا يسير بخط مستقيم بل بمسار تعرجي، وتكون هناك دائما محطات “يستريح” فيها السعر ويستقر لفترة قبل ان يعاود مسيرته الصعودية أو الانحدارية.

والتقديرات حاليا ان المحطة المقبلة للدولار، والتي قد لا تتأخر كثيراً، ستكون على سعر الـ20 الف ليرة، حيث قد يستقر لفترة، ومن ثم يُقلع من جديد. انها دوامة لا خروج منها سوى عندما يحين موعد خطة الانقاذ الشاملة.

المصدر: السهم