د. شادي مسعد
أصبح الارباك سمة اساسية في كل القرارات والاجراءات التي يتخذها البنك المركزي، في محاولاته الدؤوبة لتخفيف وطأة الأزمة المالية والاقتصادية.
هناك نماذج كثيرة يمكن تقديمها لإظهار حجم الارباك السائد، منها على سبيل المثال الاجراءات التالية:
اولاً- التعميم 154 الذي نصّ على زيادة الاموال الخاصة للمصارف بنسبة 20%، وعلى تكوين مؤونات بنسبة 45% على اليوروبوند، وتكوين حسابات حرة لدى المصارف المراسلة بنسبة 3% من مجموع الودائع بالعملات كما هي في 31 تموز 2020. كل هذه البنود المطلوبة كانت تهدف، حسب المركزي، الى «اعادة تفعيل نشاطات المصارف المعتادة لعملائها بما لا يقل عما كانت عليه في تشرين الاول 2019».
ثانيا- التعميم 158 جاء لينقض ما رسمه التعميم 154. اذ أسقط مبدأ اعادة هيكلة المصارف، ودفعها الى استعادة دورها، وبدلاً من ذلك، طالب المصارف باستخدام الاموال المحرّرة التي كوّنتها في المصارف المراسلة لغايات لا علاقة لها باستعادة دورها في تمويل الحركة الاقتصادية.
ثالثا- قرارات متتالية لخلق منصات كان يفترض ان تؤدّي وظيفة ما في ضبط سعر الصرف، أو على الأقل ان تساهم في اضفاء الشفافية على السوق السوداء. وآخر المنصات هي المنصة المركزية «SAYRAFA»، التي لا تزال تبيع الدولار على سعر 12 الف ليرة، في حين ان السعر الحقيقي للدولار في السوق الحرة لامس الـ18 الف ليرة. هذا الامر بات ينطوي على فساد موصوف. اذ ان مصرف لبنان يستخدم ما تبقى من اموال المودعين، لتمويل مستوردين يشترون الدولار على 12 الف ليرة، ويبيعون السلع التي يستوردونها على سعر الدولار الحقيقي، أي بربح غير شرعي يصل الى 50%، بالاضافة الى ارباحهم المشروعة. وبالتالي، اصبحت منصة المركزي عنوانا للفساد، لأن وظيفتها باتت غامضة، ولا تخدم سوى مصالح حفنة من التجار المحظوظين. والسؤال المطروح لماذا تستمر هذه المنصة في العمل، وهل يستخدمها المركزي لامتصاص السيولة بالليرة بكلفة مرتفعة من اموال الناس؟
رابعاً- قرار دعم المحروقات على سعر صرف 3900 ليرة. هذا القرار يبدو بدوره غير متزن. اذ ان المطالبة برفع الدعم تهدف الى امرين: اولا، وقف الانفاق من الاموال المتبقية في المركزي، وثانيا وقف الهدر الذي يحصل من خلال تهريب المحروقات الى سوريا بسبب فارق الاسعار. والغريب، ان قرار المركزي بتغيير سعر الدعم سيؤدي الى زيادة الانفاق من الاحتياطي الالزامي بسبب الغاء نسبة الـ15% التي كان يغطيها مستورد المحروقات بالدولار الطازج، ولن يؤدي القرار بطبيعة الحال الى خفض حجم التهريب، لأن ارتفاع سعر صرف الدولار سيبقي على هامش الربح نفسه بالنسبة الى المهرّب. وبالتالي، من المنطقي السؤال، ما هي الافادة من قرار تغيير تسعيرة الدعم؟ فهل المطلوب فقط زيادة الاعباء على المواطن، من دون توفير هدر الاموال الاحتياطية، ومن دون وقف التهريب؟ وهل يندرج القرار ايضا في سياق خطة امتصاص السيولة بالليرة من السوق؟
هذه نماذج من مجموعة قرارات واجراءات اتخذها مصرف لبنان، وهي تعكس تخبطاً يوحي بالفشل. ويدفع المواطن من قدراته المعيشية فاتورة هذه القرارات العشوائية، وقد دخلنا في مرحلة صعبة، لا تشبه المراحل السابقة. ومع ذلك، قد لا يكون الخطر الحقيقي هو ما يجري اليوم، بل ما قد يجري غدا، عندما تنضب كل الاموال، والتي من غير المعروف حجمها بدقة حتى الان، بسبب سياسة الغموض غير البناء التي يعتمدها مصرف لبنان. كما ان الشكوك في كونه يتحول الى زبون يشتري الدولارات من السوق الحرة لها ما يبررها.
في المحصلة، تبدو الأشهر القليلة المقبلة مفصلية في الوضع المالي، ذلك أن المصارف التي ستبدأ في تنفيذ التعميم 158 ستجد نفسها بلا احتياطي في المصارف المراسلة، بما قد يهدّد علاقتها بهذه المصارف.
في المقابل، ومع الانفاق الذي يستمر به مصرف لبنان، من خلال دعم المحروقات، ودعم الدواء الذي جرى الاتفاق على خيوطه العريضة، وتوفير قسم من التمويل للبطاقة التمويلية التي سيقرّها مجلس النواب من حيث المبدأ. بالاضافة طبعا الى مساهمته السخية في تمويل تنفيذ التعميم 158 (نصف المبلغ الاجمالي زائد ما سيقرضه للمصارف غير القادرة على الالتزام)، والاستمرار في تمويل حاجات الدولة من العملات (حوالي 800 مليون دولار)…
كل هذه المؤشرات توحي بأن مشهد القطاع المالي (المركزي والمصارف) سيكون قاتماً بعد بضعة اشهر، وفي احسن الاحوال بعد سنة. وسيكون البلد على موعد مع مرحلة مختلفة أقسى بكثير من المرحلة الحالية رغم سودويتها.
المصدر: جريدة السهم