د. شادي مسعد
لم تعد الخلافات غير المعلنة بين مصرف لبنان والبنوك التجارية خافية على أحد، بدليل البيان الأخير غير المسبوق الذي أصدرته جمعية المصارف اللبنانية التي اجتمع مجلس ادارتها برئاسة سليم صفير وناقش بالعمق مخاطر ما يجري في موضوع استمرار الانفاق من الاحتياطي الالزامي بالدولار.
من الواضح أن حرب بقاء تدور رحاها بين المركزي والبنوك التجارية، التي باتت تشعر بأن السلطة السياسية لن توقف ضغوطاتها على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من اجل دفعه الى مواصلة دفع الفواتير الدولارية الملحة، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر المحروقات، الادوية، احتياجات الدولة الخارجية…
وتدرك المصارف كذلك، أن المودعين لن يرحموها ويمنحوها ظروفا تخفيفية لضياع ودائعهم، بل سيحمّلون اداراتها المسؤولية كاملة. كذلك تدرك ادارات المصارف انها لن تستطيع ان تصمد وتستمر من دون مودعين، وبالتالي، فان الاجهاز على ما تبقى من احتياطي الزامي لن يكون بمثابة اعلان واضح عن ضياع الودائع وعدم امكانية اعادتها الى اصحابها فحسب، بل يعني ايضا انهيارا رسميا كاملا للقطاع المصرفي، الذي لا تزال ادارته، ورغم عمق الأزمة، تأمل بالصمود والانتظار لاستعادة دورها في تحريك العجلة الاقتصادية عندما يحين الموعد.
هذا الواقع قد يكون دفع في اتجاه البيان التحذيري الذي اعلنت فيه المصارف انها تدرس الخيارات المتاحة لمنع انفاق الاحتياطي الالزامي في المركزي. وذهبت أبعد من ذلك، عندما طالبت مصرف لبنان، اعادة الدولارات الطازجة الى المصارف نتيجة قرار خفض الاحتياطي الالزامي من 15 الى 14%. وهي اشارت بوضوح الى ان اي خفض في نسبة الاحتياطي الالزامي ينبغي ان يستتبع باعادة الاموال الى اصحابها، اي الى المصارف.
ويبدو ان المصارف درست فعلياً مع مجموعة من المستشارين القانونيين امكانية رفع دعوى وطلب الحجز الاحتياطي على الدولارات التي تدخل في اطار الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان. وتوصلت الى خلاصات تدعوها الى الاقتناع بأن هذا الامر مُتاح قانونياً، لكنها تريثت لأنها لا تريد ان تصل الى نقطة اللاعودة مع مصرف لبنان.
في موازاة هذه المواجهة غير المعلنة، تعتبر المصارف انها عندما تضغط بهذا الاسلوب انما لا تستهدف حاكمية المركزي بل السلطة السياسية، اذ ان اللجوء الى القانون لحفظ حقوقها وبالتالي حقوق المودعين، يمكن ان يشكّل ورقة يستخدمها سلامة والمجلس المركزي في مصرف لبنان لمواجهة ضغوطات السلطة السياسية.
هل تنجح هذه السياسة التي قررت المصارف اتباعها في وقف الانفاق من الاحتياطي؟
من خلال الوقائع، ورغم وجود تناقض وتصادم أحياناً في المصالح بين المركزي والمصارف التجارية، الا أن المصير المشترك لا يزال أقوى من الاختلافات في وجهات النظر. وحتى التعميم 158 الذي باشرت المصارف في تنفيذه، سيكون مصرف لبنان شريكاً فيه بنسبة 50 في المئة، وسينفق من الاحتياطي الالزامي حوالي مليار دولار وربما اكثر لتمويل دفع الدولارات الطازجة الى المودعين. وبالتالي، من العبث الاعتقاد ان تضارب المصالح في بعض المفاصل بين الطرفين يمكن ان يوصل الى مواجهة شاملة ومفتوحة، خصوصا ان المصارف لاحظت ان الحملة الخارجية التي تعرّض لها سلامة بدأت تخبو، وبالتالي، من كان يعتقد ان الملفات القضائية التي تم فتحها لحاكم مصرف لبنان في سويسرا وفرنسا وسواهما يمكن ان تكون مقدمة لسقوطه، تبين له ان هذا الاحتمال صار بعيدا، وهو ان كان سيحصل يوما، فهو حتما لم يعد وشيكا كما ظنّ البعض. وعليه، من المرجّح ان تطغى لغة التفاهمات على لغة الخلافات في المرحلة القصيرة المقبلة.
ومع ذلك، لم يعد متاحا اخفاء الشرخ القائم بين المصارف نفسها حول كيفية التعاطي مع مصرف لبنان، اذ هناك تيار بين المصرفيين يؤيد استخدام الحزم في رسم معالم هذه العلاقة، من خلال اتخاذ خطوات تُظهر للرأي العام وللمودعين بشكل خاص، ان المصارف ضحية من ضحايا مصرف لبنان وليست شريكا معه في التسبّب بالفجوة المالية التي تم اكتشافها يوم قررت حكومة حسان دياب في اذار 2020، وضع خطة انقاذ وبدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. هذه الفجوة تعني عمليا ان مصرف لبنان ابتلع الاموال التي اودعتها المصارف لديه.
وفي موازاة هذا الراي المصرفي، هناك رأي آخر يمثله اصحاب مصارف يدعون الى استمرار التعاون الكلي مع المركزي، وعدم ارتكاب خطأ المواجهة معه، لأن ذلك لن يكون في مصلحة القطاع المصرفي، كما ان الخلاف لن يمنح المصارف صك براءة بالنسبة الى المودعين، لأن المشكلة مع هؤلاء ستبقى قائمة كما هي، سواء كانت المصارف على وفاق ام على خلاف مع المركزي.
في النتيجة، يعاني القطاع المالي بشقيه، البنوك التجارية والبنك المركزي من ضائقة خانقة، وهو يمر في مرحلة دقيقة وحساسة، قد تتبلور نتائجها اكثر في الاشهر القليلة المقبلة.
المصدر: السهم