إعادة تكوين الودائع…عبارة كشفت الكثير

د. شادي مسعد

الأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مصير الوضع المعيشي للبنانيين، بعد قرار مصرف لبنان رفع الدعم عن المحروقات، واعطاء مهلة بضعة ايام لتصريف كميات المحروقات الموجودة في الخزانات على سعر 3900 ليرة. وعلى عكس ما يعتقد البعض، فان اعطاء هذه المهلة لا يعتبر خطوة تهدف الى اجبار الشركات المستوردة على بيع مخزونها على السعر السابق، لئلا تحتفظ بهذا المخزون وتبيعه لاحقا على السعر الجديد، بل يهدف الى حماية هذه الشركات أو بعضها، لأن الشركات المحظية بينها كانت لا تنتظر موافقة مصرف لبنان على فتح الاعتماد، بل تعمد الى الاستيراد وتسديد ثمن الشحنة، وتوزعها في السوق، ومن ثم تستحصل على موافقة مصرف لبنان. هذه الشركات خشيت ان يعمد المركزي الى الامتناع عن تمويل مخزونها السابق على السعر المعتمد (3900 ليرة للدولار)، وقد باعت قسما منه على هذا السعر، وجاءت التسوية بمواصلة تمويل كل المخزون المتبقي، لحماية هذه الشركات من تكبُّد خسائر. وفي الوقت نفسه، أعطى مصرف لبنان من خلال هذه التسوية مهلة بضعة ايام للتفاهم على الصيغة الجديدة التي سيتم اعتمادها في استيراد المحروقات.

لا شك ان السلطة السياسية تواجه في الوقت الحاضر خيارات صعبة. وهي تدرك ان وقف الدعم وتحرير سعر المحروقات سيكون بمثابة كارثة ليس سهلا ضبط تداعياتها على مستوى الشارع الذي سيصبح على قاب قوسين أو أدنى من انفجار اجتماعي لا يمكن التكهّن بالمدى الذي قد يبلغه، في ظل انتشار الفقر والعوز، وانضمام النسبة الاكبر من العائلات الى لائحة الفقر المدقع.

لكن، ومن خلال هذا المشهد السوداوي، تبرز اشارات ايجابية يمكن البناء عليها للاستنتاج ان انقاذ البلد اقتصاديا لا يزال متاحا، شرط ان تبادر القوى السياسية الى تغيير النهج السائد، وتقوم بكل الخطوات الضرورية للبدء في مسيرة الاصلاحات، بالتوازي مع البدء في تنفيذ خطة انقاذ يُتفق عليها مع صندوق النقد الدولي (IMF) برعاية المجتمع الدولي الذي أظهر حرصاً على دعم لبنان ومنع انهياره بالكامل.

أبرز هذه الاشارات، ما ورد على لسان حاكم المركزي رياض سلامة في معرض دفاعه عن قرار رفع الدعم، ورمي الكرة في ملعب السلطة السياسية لكي تتخذ القرار في شأن استخدام الاموال الاحتياطية الالزامية المتبقية. هذه الايجابية تكمن في تأكيد سلامة ان مبلغ الـ14 مليار دولار موجود فعلا وليس رقماً وهمياً. اذ هناك شكوك كثيرة حول حقيقة توفر هذا المبلغ. وبالتالي، اذا كان كلام سلامة دقيقا في هذا السياق، فهذا يعني ان البلد، ورغم ان هذه الاموال ليست للدولة، يستطيع ان يتصرف بهذه الاموال للانقاذ، بالاضافة الى احتياطي الذهب الذي تبلغ قيمته على السعر الحالي حوالي 17 مليار دولار. ولا جدال في ان مبلغ 31 مليار دولار، بالنسبة الى اقتصاد اصبح حجمه حوالي 26 مليار دولار، هو رقم جيد ويمكن البناء عليه لوضع خطة للخروج من النفق.

في غالبية الدول التي واجهت ازمات انهيار مالي واقتصادي، ووصلت الى حد العجز عن دفع ديونها، لم تكن تلك الدول تملك اموالا غب الطلب كما هي الحال في لبنان. بالاضافة الى ان تحويلات اللبنانيين في الخارج تصل الى حوالي 7 مليار دولار سنوياً، بما يعطي هامشا واسعا لرسم خطة انقاذية. طبعا، تبقى المشكلة في السياسة، اذ لا يمكن التخطيط لبدء الاصلاحات وتنفيذ الخطط من دون حكومة. وهذا الامر تشير اليه كل التقارير الدولية، ويحمله السفراء الاجانب كرسائل مستعجلة يتم ابلاغها الى المسؤولين اللبنانيين: شكّلوا الحكومة قبل الانهيار الكبير.

تبقى نقطة مهمة في ما قاله حاكم مصرف لبنان، ويرتبط بالودائع، اذ قد يكون صحيحا ان لبنان لا يحتاج الى 19 عاما لكي يعود الى وضعه الطبيعي، كما تقول المؤسسات المالية الدولية، لكن الصحيح كذلك ان تسريع التعافي لن يتم وفق الطريقة التي تحدث عنها سلامة، أي اعادة تكوين الودائع لئلا يخسر المودعون قسما من اموالهم. في حقيقة الامر، مسألة اعادة تكوين الودائع تكون متاحة قبل اعلان الافلاس، أي قبل كشف المستور وفضح الفجوة المالية القائمة. لكن بعد كشف حجم النقص في الاموال المتوفرة في المصارف لا يمكن التفكير في اعادة تكوين الودائع، إلا اذا كنا نتحدث عن عشرات السنوات. وبالتالي، لكي يكون كلام سلامة منطقيا في ان لبنان يستطيع ان يعود الى وضعه الطبيعي خلال سنوات قليلة، عليه ان يعترف بأن قسما كبيرا من الودائع لن يعود الى المودعين

النقطة الأخيرة في هذا الموضوع، ان كلام سلامة عن اعادة تكوين الودائع، يعكس اعترافا مزدوجا: اولا، ان الودائع لم تعد موجودة. وثانيا، ان مصرف لبنان ليس قادرا على اعادة الاموال التي وظفتها المصارف لديه، والتي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار. ولو ان المركزي قادر على تسديد هذه الالتزامات لما كانت هناك حاجة في الاساس لاعادة تكوين الودائع.

السهم