11 مليار دولار مرّت «ترانزيت» في لبنان

د. شادي مسعد

التسوية التي توصل إليها اجتماع بعبدا في شأن المحروقات وتمتد زمنياً حتى آخر ايلول، فتحت النقاش في ملف آخر. هل من المجدي اقتصادياً ان يعمد مصرف لبنان الى شراء الدولارات من السوق السوداء، وما هي مفاعيل خطوة من هذا النوع، خصوصاً أن المبالغ التي يحتاجها المركزي تزيد يوماً بعد يوم، بسبب نضوب أمواله، ووصوله الىع الاحتياطي الالزامي الذي تعهد عدم المس به.

لو لم يكن لبنان دولة استثنائية من حيث حجم القوى اللبنانية العاملة في الخارج، بالاضافة إلى المغتربين، والذين يضخون بشكل دائم الدولارات الطازجة في السوق الحرة، لكان الوضع الاقتصادي والمعيشي اسوأ بكثير مما نشهده اليوم. لكن الاعتماد على دولارات السوق الحرة، لا يعني أن البلد في آمان، وأنه لا ينفق من الاحتياطي الالزامي المتبقي في المصارف. ذلك أن دولارات السوق هي من حق اللبنانيين جميعا، بحيث يتم استخدامها في تنشيط الحركة الاقتصادية، وتحصين المؤسسات، لكي لا يشهد الاقتصاد تراجعا اضافيا تتم ترجمته من خلال بطالة اضافية، ووضع مأساوي لقسم كبير من اللبنانيين.

انطلاقاً من هذا المبدأ ينبغي التعاطي مع دولارات السوق السوداء على اساس انها احتياطي وطني ايضا، ينبغي التصرّف به بحرص ودقة، لأنها واحدة من الفرص المتاحة لمنع المزيد من الانهيار نحو قعر غير محدّد. مناسبة هذا الكلام ما نشهده من منافسة علنية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية لشراء الدولارات من السوق. ووصلت المنافسة مرحلة متقدمة لجأ فيها مصرف لبنان الى السلاح الثقيل من خلال استخدام نفوذه كمشرف ومنظّم (supervisor & regulator) للقطاع المصرفي، لكي يصدر تعميما رقمه 159 منع بموجبه المصارف من شراء الدولارات من السوق الحرة.

هذا الإجراء قد يكون مفهوماً اذا كان الهدف منه منع التصرّف بهذه الدولارات لحسابات خاصة، وتحويل السوق الحرة إلى مصدر حيوي لعملة صعبة تهدف إلى انعاش الاقتصاد ومدّه بالاوكسجين الضروري للاستمرار والصمود بانتظار موعد تنفيذ خطة للانقاذ الشامل. لكن، أن يتحول السوق إلى ساحة معركة يتناتش فيها الكبار ما تيسّر من دولارات، فهذا أمر ينطوي على مخاطر، لأن هذه الدولارات، وإن كانت حرة وضمن نظام اقتصادي حر يسمح لأي فرد او كيان بتداولها، الا اننا في لبنان نمر بمرحلة استثنائية تستوجب تنظيم هذه السوق بما يتلاءم مع وضعنا كدولة مفلسة ومعرّضة فعلياً لمخاطر المجاعة، او الفقر المدقع لدى نسبة كبيرة من السكان.

من هنا، قد يكون مفهوماً أن يصدر مصرف لبنان قراراً يمنع بموجبه المصارف من شراء الدولارات من السوق، لكن ما ليس مفهوماً أن يكون الهدف من هذا القرار إبعاد المنافسين، والسيطرة على هذه السوق لشراء الدولارات منها لمواصلة دعم المحروقات أو أية سلعة أخرى. خصوصا أن الدعم يعني عملياً هدر نسبة من هذه الدولارات يقدّرها البعض بالنصف تقريبا (50%)، على التهريب والتخزين غير الشرعي لبيع المادة في السوق السوداء المحلية.

في حسبة بسيطة لكمية الدولارات التي دخلت الى لبنان منذ مطلع 2020 حتى اليوم، يتبين ان الرقم يصل الى 11 مليار دولار. والسؤال: كم من الدولارات جرى استثمارها لضخ الحياة في شرايين الاقتصاد الهزيل؟ الجواب صفر تقريباً، لأن قسماً من هذه الاموال دخلت إلى البلد ولم تنزل إلى السوق من الاساس، بل جرى تخزينها في المنازل، على طريقة القرش الابيض لليوم الاسود، ولأن اللبنانيين على قناعة بأن الدولار ذي قيمة ثابتة، وان الليرة معرضة لمزيد من الانهيار. قسمٌ آخر من الدولارات، والتي باعها أصحابها للانفاق جرى جمعها من تجار العملات والصيارفة للمتاجرة بها، وتحقيق أرباح سريعة. قسم آخر جمعه من السوق الحيتان، مؤسسات أو افراد، ومن ضمنهم المصرف المركزي والمصارف التجارية. وهناك قسم اشتراه تجار ومستوردون يشترون البضائع بالدولار، ويبيعون في السوق المحلي بالليرة. ويبقى قسم زهيد اشتراه مواطنون لحاجات يومية وانفاقية.

من خلال هذه الخريطة التي ترسم مسار ومصير الدولارات في السوق السوداء، يمكن الاستنتاج أن حوالي 11 مليار دولار دخلت الى لبنان، في فترة الافلاس، ولم تتم الافادة منها كما ينبغي في ظروف مماثلة، بل مرّت «ترانزيت»، أي من دون استثمار حقيقي. وبالتالي، ولأن مرحلة الانقاذ لم تبدأ بعد، وليس واضحاً متى ستبدأ، لا بد من خطة لوقف التعاطي مع هذه الدولارات على أساس أنها مال سائب، وأنها من نصيب من يمتلك القدرة لشرائها وتخزينها. هذه الدولارات، ووفق حجم الاقتصاد الحالي، ومع تراجع الاستيراد الى ما دون الـ10 مليار دولار سنويا، تستطيع ان تكون الدينامو لتحريك عجلة الاقتصاد.

من هنا، مطلوب وضع خريطة طريق للافادة من نقطة القوة هذه، من دون المسّ بمبدأ الاقتصاد الحر والسوق المفتوح للجميع، وهذا الأمر ممكن شرط أن يكون هناك من يفكر في المعالجة.

السهم