اذا اختلفوا على «القسمة» طارت الخطة

د. شادي مسعد

كثيرون ارتابوا في خلفية انقطاع الكهرباء في قصر الاونيسكو، قبيل بدء الجلسة النيابية لمنح الحكومة الميقاتية الثقة، ولم يصدقوا ان الامر يتعلق بحادثة عفوية ناتجة عن اهمال وعدم مسؤولية. وعندما وصل سيترن المازوت، وتبين فعلا ان العتمة غير مقصودة، ولا رسائل او خلفيات سياسية وراءها، زاد منسوب الاستغراب، على اعتبار أن قصر الاونيسكو تحول إلى مقر رسمي لانعقاد الجلسات النيابية، وبالتالي، صارت ادارته تحت اشراف الجهاز الاداري للمجلس النيابي.

وفي هذا الوضع، كيف يعقل أن يغفل هذا الجهاز عن تأمين المازوت لضمان تشغيل المولد الكهربائي، خصوصاً أن جلسة الثقة أُعلن عنها مسبقاً قبل بضعة أيام، ولم تُباغت الجهاز؟
الجواب، وبعد استبعاد الخلفية القصدية التي تبغي تحقيق أهداف سياسية، أن هذا السلوك المُهمِل، وهذا النمط في الادارة، هو نموذج مصغّر لادارة البلد ككل. وهذا النمط من الاهمال المجاني، والعبثية غير المبررة، هي التي أوصلت البلد الى الانهيار والافلاس، والمأساة التي يمر بها اللبنانيون في هذه الايام.

هذه المقدمة تمهّد لطرح مجموعة تساؤلات تتعلق بالسلوك المحتمل للسلطة التنفيذية في الايام المقبلة، عندما سيحين موعد الاستحقاقات الصعبة التي تحتاج إلى ادارة رشيدة، والى قرارت دقيقة تختلف عن نمط الاهمال والاستخفاف السائد في كل الدوائر الرسمية للدولة.
وبما أن الجميع اتفق على أن التفاوض مع صندوق النقد الدولي هو اولوية مطلقة، وممر الزامي للخروج من الأزمة، فهذا يعني ان الحكومة ستكون جاهزة لتنفيذ المندرجات التي يحتاجها التوصّل الى اتفاق مع صندوق النقد. فهل الجهوزية متوفرة، وما هي المعوقات المحتملة؟

للتوضيح، وقبل إبرام أي اتفاق نهائي مع اي حكومة، ومن مبادئ صندوق النقد الثابتة، ان يطلب من الدولة الراغبة في التعاون معه تنفيذ خطوات تسبق اي اتفاق. هذه الخطوات، تهدف الى امرين:
اولا- تمهيد الارض لتنفيذ الاتفاق الاساسي، أي تحضير المناخ العام للتمكّن من البدء في تنفيذ خطة الانقاذ الشامل. هذه الخطوات تساعد على عدم اضاعة الوقت، عندما يحين موعد المباشرة في الدعم.
ثانيا- اختبار نوايا السلطات المفاوضة، واختبار قدرتها على الالتزام بمندرجات الخطة. وبالتالي، اذا لم تتمكن أي حكومة من تنفيذ الخطوات التمهيدية، فهذا يعني حتما انها ستكون عاجزة عن تنفيذ الخطوات الاصلاحية المطلوبة في أي اتفاق، وبالتالي، يصعب استكمال المفاوضات معها.

في الهدف الثاني يكمن بيت القصيد. والسؤال المطروح لا يتعلق فقط إذا ما كانت الحكومة الميقاتية قادرة على تلبية مطالب «تمهيد الأرض» فحسب، بل أيضاً اذا ما كانت قادرة على هذا الامر وفق المعايير المطلوبة.

ولمزيد من التوضيح، يمكن ايراد المثال التالي: من الشروط الرئيسية لتمهيد الارض قبل البدء بخطة الانقاذ، ان يُصار الى تعيين هيئات ناظمة للقطاعات المنوي اصلاحها. وللتذكير هذا الشرط البسيط نظرياً، لم تنجح الحكومة اللبنانية في تجاوزه في مرحلة مؤتمر «سيدر»، حيث طالب المانحون كشرط لبدء الافراج عن الاموال تنفيذ سلسلة اجراءات. وبعدما شعر المانحون بأن السلطة اللبنانية عاجزة عن التنفيذ، وبسبب رغبة المجتمع الدولي في منع انهيار البلد، عمد المانحون الى تقليص سقف مطالبهم، وحصروها بشرط وحيد، وهو ان يُصار الى تعيين هيئة ناظمة للقطاع الكهربائي. وجال المفوض الفرنسي المخول متابعة تنفيذ «سيدر» بيار دوكان على المسؤولين اللبنانيين محاولاً اقناعهم بتنفيذ هذا المطلب اليتيم، ومتعهداً ان يبدأ تدفّق الاموال بعد ذلك مباشرة.
لكن مطلب المانحين على بساطته لم يُنفّذ، وظلت اموال «سيدر» محجوبة عن لبنان إلى أن وقع المحظور وانهار البلد مالياً واقتصادياً واجتماعياً.

اذا سألنا انفسنا اليوم، لماذا لم يُنفّذ المسؤولون اللبنانيون هذا المطلب البسيط، سوف يتبين لنا أن الاجابة ذي شقين: اولاً، لأن الاهمال والاستخفاف هما عنوان الادارة السياسية في البلد. وثانياً، لأن المحاصصة تمتلك الأفضلية، وبالتالي تشكيل أي هيئة أو ما شابه يستدعي التوافق على الحصص، واذا ما تعذّرت «القسمة»، يتوقف التشكيل مهما كان الموضوع حيوياً للبلد، وتطير خطة الانقاذ. على الاقل، هذا ما ثبُت بالتجربة الطويلة حتى الان.

السؤال اليوم، وبما أن مطلب تشكيل الهيئات الناظمة هو ألف باء المطالب التي سوف يطرحها صندوق النقد قبل اي اتفاق انقاذي، هل نستطيع ان نتوقع انجاز هذا المطلب، بما يعني أن الاطراف السياسية التي تتألف منها الحكومة سوف تتفق على الحصص داخل كل هيئة، وبالتالي، ينجح التشكيل؟

اذا كانت تجربة الهيئة الناظمة لقطاع النفط التي تشكلت منذ سنوات هي النموذج، فان الامر لا يدعو الى التفاؤل كثيرا، لأن المحاصصة لا تعرقل التشكيل احيانا فحسب، بل قد تؤدّي الى تسمية أشخاص لا يمكن اعتبارهم مطابقين لمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، لأن القوى السياسية تختار مرشحيها وفق معيار الولاء لا الكفاءة. وبالتالي، واذا سلمنا جدلاً بأن من اتفق على الحصص الوزارية، ولو بعد معاناة، قد ينجح في الاتفاق على الحصص في الهيئات الناظمة، فهل سيوافق صندوق النقد على هيئات لا يمتلك افرادها الكفاءة والنزاهة لادارة القطاع. وفي هذه الحال ما الفرق بين ادارة الهيئة الناظمة لأي قطاع، وبين ابقائه تحت عباءة هذه الوزارة او تلك؟

هذا نموذج بسيط من التحديات المطروحة، والتي تجعلنا متوجسين حيال التفاؤل بنجاح مهمة الحكومة في وضع لبنان على سكة الخروج من أزمته المالية والاقتصادية والاجتماعية المزمنة.

السهم