ثاني أكسيد الكربون يسجل مستويات قياسية تثير القلق.. هل تختنق الأرض؟

في تطور تاريخي مُقلق يعكس حجم الأزمة البيئية التي تواجه كوكب الأرض، أكد باحثون في معهد سكريبس لعلوم المحيطات في سان دييجو أن مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ البشرية.
ولأول مرة منذ بدء القياسات الدقيقة عام 1958، تجاوز المتوسط الشهري العالمي لثاني أكسيد الكربون حاجز 430 جزءا في المليون، ليصل إلى 430.2 جزءا في المليون في مايو 2025 ، وتُؤكد هذه الزيادة المُقلقة التأثير المتزايد لانبعاثات غازات الدفيئة الناجمة عن النشاط البشري، مما يدفع نظام المناخ على الأرض إلى آفاقٍ مجهولة بعد تسجيل مستويات غير مسبوقة.
ويُمثل ثاني أكسيد الكربون، وهو أهم غاز دفيئة مُعمر ينتجه النشاط البشري، الآن ظروفا كانت قائمة خلال عصر البليوسين، أي منذ أكثر من أربعة ملايين سنة، حيث كانت درجات الحرارة أعلى ومستوى سطح البحر أكثر ارتفاعًا بشكل كبير.
العلماء يحذرون: “عام جديد رقم قياسي جديد
ووصف رالف كيلينغ، مدير برنامج سكريبس لثاني أكسيد الكربون، هذا التطور بكلمات مؤلمة تعكس مشاعر القلق المتزايدة داخل المجتمع العلمي، قائلاً: “عام آخر، رقم قياسي جديد… إنه لأمر محزن” ، ويعكس هذا التصريح اليأس المتزايد من قدرة العالم على كبح جماح انبعاثات الكربون، خاصة في ظل استمرار السياسات الحالية وتراخي الالتزامات المناخية.
وثاني أكسيد الكربون، الذي يُشكل الغالبية العظمى من انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن الإنسان، يُعد المحرك الرئيسي للاحتباس الحراري وتغير المناخ، ويُسهم في اضطراب أنماط الطقس، وازدياد الظواهر الجوية المتطرفة، من حرائق الغابات إلى الفيضانات والعواصف.
كما يُحذر العلماء من أنه إذا استمرت الانبعاثات دون رادع، فقد يُصبح سطح الأرض في النهاية غير ملائم للحياة البشرية.
مستوى ثاني أكسيد الكربون.. آثار صحية تُفاقم المخاوف المناخية
ولا يتوقف خطر ثاني أكسيد الكربون عند تأثيراته البيئية فقط، بل يمتد إلى تهديدات صحية مباشرة على الإنسان. فمع ارتفاع التركيزات، قد تظهر آثار تشمل ضعف الإدراك، الدوخة، الغثيان، النعاس، بل وحتى الوفاة في الحالات القصوى.
ورغم أن المستويات الحالية لا تصل بعد إلى تلك الدرجة الحرجة، إلا أن الاتجاه التصاعدي يُثير قلقًا بالغًا ويؤكد على الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات وقائية.
المحيطات في خطر: التحمض يهدد الحياة البحرية
وتُعد المحيطات خط الدفاع الأول في امتصاص الكربون، لكنها تدفع الثمن. فمع زيادة امتصاص ثاني أكسيد الكربون، ترتفع حموضة مياه البحر، مما يُضعف من قدرة الكائنات البحرية مثل الشعاب المرجانية والمحاريات على بناء هياكلها الكلسية.
النتيجة؟ تهديد مباشر للتنوع البيولوجي في البحار، وتأثيرات مدمرة على سلاسل الغذاء والصناعات السمكية التي تُعد مصدر رزق للملايين حول العالم.
ماونا لوا: مركز الرصد المناخي في قمة العالم
وجُمعت البيانات القياسية في مرصد ماونا لوا في هاواي، الواقع على ارتفاع 11,141 قدمًا فوق مستوى سطح البحر. يستخدم هذا المرفق، المشهور بدراساته الجوية طويلة الأمد، تقنيات ضوئية وإشعاعية متقدمة لتحليل عينات الهواء.
هنا، بدأ تشارلز ديفيد كيلينج – والد رالف كيلينغ – بتسجيل مستويات ثاني أكسيد الكربون بشكل منهجي عام 1958، مُنتجا منحنى كيلينج الشهير الآن، وهو سجل بصري واضح لارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
أما اليوم، فابنه رالف كيلينغ يُواصل هذا الإرث العلمي، حيث أعلن أن متوسط شهر مايو 2025 ارتفع بمقدار 3.5 جزءًا في المليون عن العام الماضي. من جانبها، سجلت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) رقمًا مقاربًا، وهو 430.5 جزءًا في المليون، بزيادة 3.6 جزءًا في المليون عن مايو 2024، ما يُعزز دقة ومصداقية الأرقام المُعلنة.
الدورة الموسمية للكربون: لماذا مايو هو الأعلى؟
تشير البيانات إلى أن تركيزات الكربون تبلغ ذروتها عادةً في شهر مايو، وخاصة في نصف الكرة الشمالي. خلال الخريف والشتاء، تتحلل المواد النباتية وتُطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون. ثم يأتي الربيع، وتبدأ النباتات في امتصاص الغاز عبر عملية التمثيل الضوئي، مما يُقلل من تركيزه مؤقتًا.
لكن هذا النمط الموسمي لم يعد كافيا لكبح الارتفاع السنوي في المتوسطات، ما يجعل التراكم مستمرا عاما بعد عام. ولم يتجاوز نصف الكرة الجنوبي، بدورته الموسمية المعكوسة، عتبة 430 جزءا في المليون بعد، لكن العلماء يقولون إنها مسألة وقت فقط.
أصداء البليوسين: لمحة عن عالم أكثر دفئًا
وتُشبه مستويات ثاني أكسيد الكربون الحالية تلك التي شوهدت آخر مرة خلال العصر المناخي الأمثل للبليوسين، قبل حوالي 4.1 إلى 4.5 مليون سنة. في ذلك الوقت، كانت درجات الحرارة العالمية أعلى بحوالي 3.9 درجة مئوية (7 درجات فهرنهايت) من مستويات ما قبل الصناعة، وكان مستوى سطح البحر يرتفع حوالي 24 مترا (78 قدمًا) فوق متوسطه الحالي.
وازدهرت الغابات فيما يُعرف الآن بتندرا القطب الشمالي، مما يُقدم مقارنة صارخة مع بيئة اليوم سريعة التغير.
دعوة لاتخاذ إجراءات مناخية عاجلة
ولخص خبير الأرصاد الجوية والمناخ، جيف بيرارديلي، رد فعل المجتمع العلمي على سجل هذا العام قائلا: “مثير للقلق”. ويتردد صدى هذا الشعور في عدد لا يُحصى من الخبراء الذين حثّوا على اتخاذ إجراءات فورية وحازمة للحد من الانبعاثات والتحول نحو أنظمة الطاقة المستدامة.
مع وصول البشرية إلى نقطة تحول مناخية، فإن هذه البيانات الأخيرة ليست مجرد رقم، بل هي تحذير. فبدون تعاون عالمي وتحولات سياسية جوهرية، قد يتدهور مناخ الأرض إلى حالة يصعب على الأجيال القادمة، إن لم يكن من المستحيل، التعامل معها.